الاثنين، 21 أبريل 2014

جين آيير - شارلوت برونتي ،

جين آيير - شارلوت برونتي ،
الرواية باختصار:

تتحدث فيه عن البطلة جين اليتيمة التي تكبر في منزل خالها المتوفيّ، وتتربى بين أبناءه وزوجة خالها التي تفرض عليها كرهها الدائم ومن ثم تقوم بإرسالها إلى مدرسة داخلية لتلقي التعليم بعيداً جداً، حتى لتكبر جين وتعمل معلمة لدى طفلة في قصر، يمتلكه السيد روشستر، تقع جين في غرامه ويبادلها الإحساس إلى أن تكتشف قبل زواجهما، بأنه لا يزال متزوجاً من امرأة مجنونة، محبوسة في قصره، فيلغى الزفاف وتفرّ جين خاوية اليدين حزينة، دون مال حينما تنتهي في منزل صغير، يضمّ فيه شقيقتان، وأخ قسيس، سرعان ما يشفقون عليها، ويساعدونها وتتآلف معهم وتمر الأيام لتكتشف صلة القرابة التي تربطهم بهؤلاء الثلاثة حينما ترث مبلغاً كبيراً عبر قريب لم تحظى بفرصة للقائه، ومن ثمّ تقتسم المال على أقربائها الأربعة وتسعد كثيراً لما آلت إليه إلى اللحظة التي يطلب منها قريبها القسيس الزواج منها للسفر معاً للهند في سبيل دينيّ بحت، فترفض بشدة في البداية، لكنه ينجح في إقناعها، وبعدها يراود مسمعها صوت روشستر من البعيد، فيدركها الهلع، وتستغل سفر قريبها للعودة إلى قصر سيدها الذي تحب، لتكتشف ما استحال إليه من بعد رحيلها، بانتحار زوجته المجنونة، وبفقدان ذراعه، والعمى الذي يشوب عينيه، وتقرر العودة إليه والبقاء لجانبه، ليتزوجان أخيراً ويعيشان معاً حتى إنجاب وليد صغير وسعادة تنهي سوءات الماضي، بعد صراع طويل من المشاعر المختلفة، في مراحل متعددة ومواقف ومشاهد وانتقالات لحالات نفسية، تتحدث بها جين وتسهب في وصفها في بيئة تصويرية وأحاسيس إنسانية لامرأة تتحدث عن قلب ضئيل، وعالم شاسع حينما كان قلبها أكبر من العالم كله .
__________________

بعد القراءات الشحيحة في التراجم الأخرى وإتمام القراءة التامة للترجمة الكاملة، هنا حيث تقف اليتيمة جين بضآلتها والحنكة في عينين خضراوتين تحكي عن طفولتها المضطهدة وانتقالها للتعلم في مدرسة بعيدة جداً، ومن ثم ممارسة التعليم كعمل حين الكِبر وإلى كونها مربية لطفلة يانعة، هذه الرواية الهائلة بالمشاعر والأحاسيس المختلفة من حُبٍّ وضيق، من الشجاعة والحكمة، من الماضي والحاضر، حديث جين الممتد فوق ما يزيد الـ 700 بقليل، يُدخل القارئ في إطار شخصية نسائية مثلت المرأة الإنجليزية الجادّة، المترعرعة في بيئة ظالمة وحزينة جداً رغم ابتعادها اللاحق لحياة أقل تواضعاً وزاهدة كثيراً مما أكسبها التزمت والملامح وهذا ما كان يدفع جين للتكلم بعقلانية شديدة دون التطرق إلى قلبها رغم أنه الأكثر ألماً وبؤساً منها، الحوادث التي تقتحم حياتها لتزيد من تمسكها بشخصيتها الصلبة وتتخلى عن الحب بسبب المبادئ، إنها تواجه العالم وحيدة مثل صياد أعزل وتنجح في ذلك، الجو الروحاني في الرواية، نبرة جين الدينية الواضحة واتباعها للتعاليم الإلهية والاحتفاء بالفرح في هبة عظيمة من الربّ، "جين آيير" إنها امرأة في كل فتاة، جميع النساء يتخذن من جين صفة ويبتسمن، قد تكون المرأة الأقرب للاكتمال، هي قنوعة جداً، إلى حدّ احتضان وليد بين ذراعيها، لجانب رَجُلٍ صاحب عينين لامعتين، يرقب الطفل بنظرات ضبابية، وهكذا يقارب الإله كل امرئٍ، يهبه الحياة، يُعذبه، يحزنه، يرمي الحب في قلبه، يُنعم عليه بالمعرفة، يُحذّر، يغضب، يعاقب ويعفو وأخيراً يُكرم وينعم وينادي عبده، مخلوق يفكر بالعدّ على أصابعه: ’’كم جين آيير غير جميلة في هذا الكون؟‘‘ .




قراءة هذه الروية بالنسبة ليّ, لن أقول أنها سيئة أو لم تكن كما توقعت, ولكن أحسب أن وقت القراءة كان غير مناسباً من ناحية قراءة الرواية, وفكرة الرواية. قرأت رائعة شارلوت برونتي بعد قراءة رواية الشياطين لدستويفسكي, وكم هو صعب وصعب جداً أن تقرأ أي رواية لأي روائي آخر بعد أن تتشبع من الروح الدستويفسكية في التحليل النفسي لشخوص رواياته وتعريتهم أمام الملأ. روايات من هذا النوع ليست بروايات الأحداث أو الحافلة بالإثارة كالروايات البوليسية, وإنما أفكار, عدة أفكار كبيرة ومثيرة يصوغها قي قالب الفقر والموت, ثم يطرحها في قالب روائي كبير ومثير لن يخرج القارئ منها إلا ورأسه مثقل بكم هائل من الأفكار المثيرة.

من يعشق روايات الأفكار - وجهة نظر - لن تعجبه أي رواية تسير على مستوى السطح, وحافلة بالأحداث المثيرة. جين اير ليست رواية فكرية أستطيع أن أقول أنها من المحببة إليّ, وليست رواية من روايات الأحداث والإثارة, حين يقرأها القارئ لن يترك الكتاب حتى وهو منتهي منها بسرعة قياسية. هناك نقطة واحدة تمسكت بها, كانت تسير عليه شارلوت برونتي في الرواية, وهي العواطف الإنسانية, والضرب على المشاعر البشرية وإثارة روح الخير فيها عبر هذا الكم من الفقر, الحزن, وإهانة الإنسان.


في قصر غايتسهيد, طفلة فقيرة يتيمة لم تبلغ الثامنة من العمر تتلقى أنواع الإهانات والضرب من سيدة القصر وأبناءها, إن مجرد ذكر هذا السطر ليثير الحزن حتى في قساة القلوب, إذ كيف بطفلة من الطبيعي أن تكون الآن تلعب أو تمارس هواية من الهوايات المحببة إليها أن تتلقى صنوف من العقاب بالحبس في أعلى القصر, حيث الخوف, والخوف, والظلام. وأنا أقرأ جين اير حاولت أن أبعد نقطة العواطف الإنسانية في الرواية, يجب أن تكون حواسي وكل تركيزي منصباً على المشهد الروائي فقط بدون التمسك بأي شيء يجعلني أتمسك بالرواية, ولكن جين اير من بداية الرواية وهي تبكي في أحد غرف القصر, تجعل بعض القراء مثلي ينصاعون لرغبتها في المشاركة بالعواطف الإنسانية حتى لو لم يرغبوا بذلك : لماذا يتعين عليّ أن أقاسي هذا العذاب كله؟

في الغلاف الأخير من الرواية يقول الناشر أن كل سطر من سطور هذه الرواية شيئاً من روح أو حياة شارلوت برونتي نفسها. فما هي حقيقة ذلك في سيرة جين اير, الرواية والشخصية؟

شارلوت برونتي, واحدة من عدة فتيات من آل برونتي, لم يجدن سوى القلم للهروب من العالم الموحش, عالم الأب المتشدد. لم تكن لهم حياة كباقي الفتيات, لقد فرض عليهم العزلة وعدم الإختلاط. كان تفكير الأب عند الإجتماع مع أطفاله منصباًَ على الحياة الآخرة, عن جهنم, والشيطان والموت! لم أقرأ سيرة شارلوت برونتي قبل قراءة الرواية, ولكن الحوارات التي دارت بين جين اير مع صديقتها هيلين بيرنز عن الموت والحياة الآخرة والإيمان بالله أثارت اهتمامي بسيرة هذه المرأة المجهولة بالنسبة لي. صورت شارلوت عبر شخصية جين اير الفكرة التي كانت تؤرقها حول الموت عبر عدة حوارات مختلفة, منها حوار جين اير مع السيد كلهورست في بداية الرواية, كلهورست رجل دين متشدد يرعى ملجأ تعليمي للأطفال, نظريته في الحياة أن أشباع الذات البشرية ليس طريقة جيدة لإنشاء جيل مؤمن, بل يجب على هذا الجيل حتى لو كانوا أطفالاً أن يتعلموا ما قاسوه المسيحين القدماء, ليس مهماً أن تكون جائعاً, تعلم القسوة والصبر, الجرأة ونكران الذات والجلد هي الطريقة الوحيدة لتنشئة الفتيات الصغيرات. ولذلك, في أول ظهر لهذه الشخصية كانت الفكرة المطروحة أمام أي سيدة تفكر في إرسال أي فتاة للدار, أن تعرف أن هناك جهنم قد تذهب إليها يوماً ما!. وفي آخر ظهور لهذه الشخصية أرادت شارلوت أن تلغي هذه الشخصية عبر السخرية منها, ظهرت هذه الشخصية في الأخير بشكل مضحك جداً, حين طلب من مديرة الدار أن تجز شعر الفتيات فقط لأنها طويلة.

ومرة أخرى تتعلم جين اير الإيمان الحقيقي مع شخصية هيلين بروز, أروع شخصية في الرواية بالنسبة لي. جين اير كانت كأي إنسان سويّ وجد أمامه صنوف من العذاب والإهانات, لو حقدت أو كرهت وأبغضت معذبيها لما لامها أحد في ذلك, هيلين بروز ترفض نظرية جين اير وتعتبر مجرد التفكير بالحقد والكره هو شعور الإنسان الوحشي, الإنسان المؤمن يجب أن يسير على خطى المسيح: أحسنوا أعداءكم, باركوا لاعنيكم, أحسنوا إلى مبغضيكم وظالميكم. كان ذلك على المستوى الفكري, حول الإيمان بالله وبالإحسان إلى الغير, فما مصير الموت الذي يؤرق شخصية جين اير, وشارلوت برونتي نفسها؟

في مشهد وفاة هيلين بيرنز الحزين, تتتلقى جين اير النور الذي تحلم به, عبر الحوار الذي أستطيع وصفه بالذكي والهادئ. تولستوي في وصفه للموت عبر رواية " آنا كاريننيا " كان مروعاً, يستغرق صفحات طويلة لوصف الموت, ولحظات قدومه, ويصف الآلام جراء ذلك الموت الأسود, شارلوت برونتي استخدمت خطاً هادئاً يحمل عاطفة جياشة : " أنا أؤمن بالله .. لدي إيمان بالله .. أنا ملتحقة بالله .. خالقي وخالقك الذي لا يهدم أبداً ما خلق, إني لأفوض أمري في غير تردد إلى قدرته, وأثق كل الثقة بإحسانه. أنا أعد الساعات شوقاً إلى حلول تلك الساعة المهيبة التي تردني إليه, وتيسر لي إجتلاء عافطته ". ببراءة هؤلاء الأطفال الحزينة, حيث الموت عبر مرض التيفوس والسل يضرب الدار, تضم هذه الطفلة بيرنز بطلة الرواية جين اير, بعد كل هذا ألا تشكل إثارة العواطف الإنسانية الخط الرئيسي في رواية جين اير بأكملها؟ حين نعرف أن هذا الموت الذي صورته شارلوت برونتي لم يكن إلا تصوير لموت أخواتها في مدرسة كوان بريدج أستطيع أن أقول أن جمال هذا التصوير نتج من تجربة شخصية للكاتبة. كذلك منافقة وتعنت مدير المدرسة المتدين السيد كلهورست مبني بشكل جزئي على شخصية القس كاروس ويلسون رجل الدين الذي كان مديراً لمدرسة كوان بريدج.

اتخذت الرواية طريقة السرد الذاتي, بحيث تكشف شخصية الرواية - جين اير - عن سيرتها الذاتيه من الطفولة ومرحلة الشباب إلى الزواج, في فترة أمتدت من ثمان سنوات إلى التاسعة والثلاثين. هناك خمس مراحل في الرواية, كل منها مرتبط بمكان معين: طفولة جين في غايتسهيد, تعليمها في مدرسة لو وورد، والزمان الذي أمضته كمربية خاصة لآديل في ثورنفيلد، ووقت إقامتها مع عائلة ريفرز في مورتون، وفي مارش إند الذي يطلق عليه أيضاً موور هاوس. ولقاءها مجدداً وزواجها من روتشيستر في فيرندن. من خلال هذه التجارب المختلفة أصبحت جين المرأة الناضجة الواثقة من نفسها إلى درجة كتابة رواية تعود بها إلى الوراء في حياتها الماضية.

سأظلم الرواية إن قلت أن إثارة العواطف كانت الخط الذي تعتمد عليه شارلوت في الرواية, النزعة التحليلة لشخوص بعض أبطال الرواية الرئيسية كان ذكياً و موفقاً مثل شخصية إدوارد روتشيستر, حين تفرد له شارلوت صفحات طويلة ليحكي حياته والآثام التي ارتكبها, وتصوير حياة القس سانت جون, وطلبه من جين اير الزواج من أجل المهمة الدينية, لا من أجل الحب وتأسيس عائلة مستقرة. حتى الوصف الفني للطبيعة في الرواية كان جميلاً, إذ تفرد الكاتبة صفحات طويلة لوصف الحدائق والقرى الريفية بشكل بهيج, كأنك تشاهد منظراً بديعاً في الريف الإنجليزي.

بعد قراءة جين اير لشارلوت برونتي, أجد رواية إميلي برونتي شقيقة شارلوت الصغرى - مرتفعات وذرينغ - واقفة أمامي. ستكون هذه الرواية محطتي القادمة بالتأكيد, وحتى أجد بيوغرافيا عن عائلة الأديبات الثلاث من آل برونتي, أستطيع وصف عائلة آل برونتي الأدبية بهذه الكلمة اللاتينية المكتوبة على قبر بيرنز " Resurgam , والتي لا تعني إلا الوقف من جديد, في طريق الحياة.

0 التعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ تحميل كتب مجانية
تعريب وتطوير ( كن مدون ) Powered by Blogger Design by Blogspot Templates